الخطوة بدأت، حين دفعها مشهد النفايات المنتشرة في كلّ مكان، لتقدّم في شارع بيتها ما تراه حلًا. سرعان ما اقتنع الجيران، فصاروا يدعمونها بمواد من المنزل والسوق، ويحافظون على النظافة. انضمّ إليها فريق من أطفال الحيّ.
تقول: “تملّكني الحزن حين صاروا يصفون منطقتنا بالوسخة. وأنا لطالما حلمت بأن أعيش في بيت يشرف على جنينة، فسألت نفسي: ألم يحن الوقت لأحقق حلمي؟”.
تشعّ بالحياة، واثقة وقويّة، هكذا تبدو فهدة وهي تتنقل في عالمها الصغير. ترتدي المريول الأحمر المزيّن بالزهور. يتماهى مظهرها مع الحديقة التّي أقامتها عند طرفي الشارع، ومدّت حبلا تتدلى منه أوعية الزرع الصغيرة الّتي تحفظ الأزهار. بعض النباتات معروف، وأكثرها كنّته باسم يشبهها ثم اهتمت به. مثلما تفعل الأمهات مع الأطفال.
تمدّ يدها لكلّ نبتة، تتفقد، تشذّب، تزيل عنها الشوائب “ورق الليمون، الزمّور، القزّيزة، تمّ السّمكة، السّاعة، دمعة العين، كحل العين لأنها تشبه قلم “الأيلاينر”، والداعية لأنّها ترفع يديها للسّماء، أما أزهار “أبو اسماعيل” الصفراء، تنبت لوحدها فأصنع منها الأكاليل للبنات، وفقّوس الحمار نقطرها في أنف المصاب بالريقان فيتعافى، وها هي الغاردينيا ستتفتح في أيار، والنّرجس وجدتها مرميّة على الأرض وستنبت من جديد. وفي الزاوية زرعت شجرة يوم انفجار بيروت”.
تتنهد بعمق “تنذكر ما تنعاد. يوم 4 آب، أرادوا تدميرنا فزرعتُها، لأقول بأنّنا متمسكون بالحياة ونستطيع أن نزرع روحًا جديدة في كلّ مكان”.
مع البصمة الجماليّة يندمج بعد بيئيّ لا يقلّ أهمية. يمكن القول، أنّ هذه السيدة بادرت بإدارة النّفايات في نطاقها الضيق، بجدية ونيّة سليمة، فحصدت نتيجة، على عكس ما يدور ضمن أزمة النفايات المتفاقمة في طرابلس ولبنان كلّه.
فكلّ يوم، عند الخامسة والنّصف عصرًا، يسمع الحيّ جرس فهدة، الّتي تقرعه بمرورها، وأحيانًا توكل المهمّة إلى أحد أطفال المجموعة: فادي، فاطمة، عمر أو غيرهم. فيتذكّر الجيران أنّ عليهم وضع النّفايات خارج البيوت، لأنّ شاحنة “لافاجيت” أتت، وهم اتّفقوا أنّ لا كيس يرمى في الخارج بعد أن تلمّها الشركة في التوقيت اليومي، ليبقى الشارع نظيفاً. وقد يتطوع أحد الأطفال في حمل أكياس الجيران.
والأمثلة الأخرى كثيرة. عوضًا عن تكديس النفايات، تصنع فهدة من هيكل سخّان المياه غير الصّالح للاستعمال وعاء للنبات بعد تلوينه. أو تستخدم فائض الطلاء الموجود لدى الجيران لتلون به جدران الشارع وتزيّنه معهم بالرسوم. وجمّعت فائض البلاط من البيوت التي تؤهل نفسها، وكست بها سبيلا للمياه كان عاريًا. وتستخدم بقايا الخضر لإنبات الفليفلة والبصل والنعناع، فتأكل منها الجارات. وصار باعة الخضر، يحسبون لها حسابًا من التراب في شوالات البطاطا لأنها غنية بالسماد. وترافقت مع الأطفال في شاحنة صغيرة نزلت بهم إلى نهر أبو علي أسفل الحي، فجمعوا الحصى للزينة وعادوا أدراجهم. وتحتفي مع الأطفال في المولد النبوي الشريف فتزين الشبابيك، وتوزّع الحلوى.
تعيل فهدة عائلتها. زوجها لم يعد يعمل بسبب إصابات تلقاها خلال أحداث الحرب. تجني المال من تقطير ماء الزهر وماء الورد وتدبيس الرمان وتحضير المؤن المنزلية، وتعدّ ورق العنب والفوارغ. وبعد أن ذاع صيتها، صارت الناس توكل إليها زراعة الشتلات والورد عن أرواح موتاهم.
هذه المرأة، مثال نابض في القيادة المحلية ومسؤولية المواطن. تعلّم الأجيال كيف يبدأ التغيير بممارسات يومية صغيرة. المثابرة عليها تصنع التغيير، وتعيد معنى انتماء الانسان إلى بقعة محددة، فيجعلها أجمل، وغالبا ما تكون انعكاساً لجماله.