الرئيسية / أخبار مهمة / المدرسة الطواشية: آية زخرفة بالفنّين المملوكي والأندلسي

المدرسة الطواشية: آية زخرفة بالفنّين المملوكي والأندلسي

 

من أبرز مدارس طرابلس التاريخية الدينية، تلفت النظر بزخرفاتها الخارجية ومدخلها الجميل.. إليكم حكاية المدرسة الطواشية.

“الطواشية” هي من أبرز مدارس طرابلس التاريخية الدينية التي انتشرت بالعشرات في طرابلس اللبنانية، تلفت النظر بزخرفاتها الخارجية، ومدخلها الجميل المُزَخْرف، تعلوه الآية الكريمة “في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر إسمه فيها” مكتوبة بالخط العربي الثلث.

المدخل باب خشبي بسيط، ومتواضع، يخضع بخشوع لما تعلوه من روائع التفنّن المعماري الهندسي المملوكي، حيث لم يترك باني تجويف المدخل تقنية فنية معمارية إلا ووظّفها في المدخل الممتدّ من أعلى المنشأة، إلى أسفلها.

يتمايز المبنى في صيغته البنيانية عن كل ما عداه في الشارع الضيّق، مثل كل شوارع المدينة القديمة، فهو مبني من صفوف أفقيّة من الحجارة المُتناوبة بين الأبيض والأسود، تخرق تمدّدها 3 نوافذ، وطاقات متطاولة بفنٍ وذوقٍ رفيعين، تشكّل أطرافها بحد ذاتها، عالماً خاصاً من فن التزيين والزركشة.

في أعلى البناء صفّ من الحجارة البيضاء المصقولة، والمحفورة بانحناءات طفيفة كأنها تاج يعلو الجدران، من دون أن يختمها، حيث تعلو الصف 4 مداميك من الحجارة البنيّة الرمليّة المختلفة عن البيضاء الكلسيّة الأخرى في جدرانه.

وفي الداخل، مجموعة متداخلة ومتقاطعة من العقود المُقَنْطَرة، المرتكزة على عضاضات ضخمة، تعطي ثقة بمتانة البناء، وهي مغطّاة بطبقة بيضاء من الطين الأملس، بسيطة وخالية من أيّة زركشةٍ أو حفرٍ، تذكِّر تشكيلاتها، وتقاطعاتها بقصور قرطبة، والحمراء الأندلسيّة، وقلّما تتكرّر في أيّ أثر طرابلسي آخر.

يقصدها المصلّون الدائمون، وكذلك الوافدون الجُدُد، عابرو السبيل؛ والسبيل ليس طريقاً عادياً، فهو سوق الذهب المعروف بسوق الصاغة، المكوّن من مئات المحلات التي تناطح أشعتها السحاب لشدّة تلألئها، وديمومته طوال النهار.

العابرون كُثُر، خصوصاً منهم قاصدو الجواهر، ومنهم مَن يصادف مروره في السوق لحظة الصلاة، فيجد الطواشية الزاهية والخاشعة في آن، أفضل مكان لأداء صلاته.

بعض العابرين يجد في “الطواشية” أفضل مكان لصلاته، فيصبح من قاصديها الدائمين في مواقيت الصلاة اليومية.

المنشأة التي خصّصت لتدريس شؤون الدين في عصرها، تحوّلت إلى مصلّى دائم لأبناء الحيّ، وبدا فيها منبر صغير يرتفع 4 درجات، في زاويةٍ من الزوايا الملاصقة للمحراب المزركش بنقوش في أعلى قنطرته.

ويلفت وجود نافذتين في الداخل، وهما لعلِّيةٍ داخليةٍ، يمكن الصعود إليها عبر درجات قليلة من الخشب، تعلو ما يشبه غرفة تحتها، لها قنطرة لكنها غارقة في أرض المدرسة، ما يشير إلى احتمال رَدْم أرضيّة المدرسة، ورفعها لتصل إلى مستوى الطريق الخارجي الذي لا يزال يرتفع قليلاً عن مستوى أرضيّة المدرسة.

تقع المدرسة في الطرف الشمالي لسوق الصيّاغين، وسط حيّ أثري بكل ما فيه، من بيوت ومساجد، وحمّامات، ومدارس منها المدرسة النوريّة، وبين حمّامَي العبد والنوري، وأقربه إليها خان الصابون ببوّابته الفخمة اللافتة.

تسمية المدرسة بـــ “الطواشية” تعود إلى بُناتها “بني الطواشي”، كما في سجلاّت المحكمة الشرعية، نسبة إلى مؤسّسها الأمير “سيف الدين الطواشي” المتوفّى عام 875 هــ، 1471 م.

وبغياب لوحة تحدّد بدقّة تاريخ بنائها، إلا أن تاريخ وفاة بانيها الواضح، يؤشّر إلى أن المدرسة بُنِيَت قبل هذا التاريخ.

أما عبارة الطواشي، وجمعها “طواشية”، فهي صفة للذكور الخصيان الذين استخدموا في قصور المماليك، وفي أجنحة الحريم السلطاني، وذلك بحسب تعريفات من المؤرّخ الطرابلسي الدكتور عمر تدمري في مؤلّفاته التاريخية عن المدينة.

تتكوّن المدرسة من ثلاثة أقسام: الأول، القسم الأيمن، ويضمّ ضريحاً فوقه القبّة، والثاني، القسم الأوسط، وهو بلاط المدرسة السماوي، والميضأة المفصولة عن باحة الصلاة بجدار مستطيل طويل، والثالث: القسم الأيسر، وهو بيت الصلاة.

ويصف تدمري مشهد المدرسة بدءاً بـــ “بوّابتها التي تقع في وسط الواجهة القبلية، وتفضي إلى البلاط السماوي، وعلى يمينها الضريح، وعلى يسارها، بيت الصلاة”.

ويصف تدمري عقدها بــــ “الأندلسي الطابع، مغربي الطراز، شبيه بعقود الأبنية الشائعة في عصر دولة الموحِّدين الأندلسيّة المغربيّة، ما يعني أن بعض التأثيرات المغربيّة الأندلسيّة بدت واضحة في أبنية المماليك في بلاد الشام”.

وعن البوّابة، يصفها بأنها “عبارة عن قطاع مستطيل الشكل، مجوّف، ينتهي بعقد مُدبَّب، له جوفة نصف كروية، شبيهة بمحارة البحر، تزدحم بشعاعات متداخلة بشكل رائع، في أربع مجموعات، وتقوم الجوفة على ثلاث طبقات من المُقَرْنصات، والمدليات”.

“جدرانها القبلي محوط من أعلاه بإطار بارز من المُقَرْنصات المسطّحة على طول الواجهة. وفي وسط واجهة بيت الصلاة تنفتح نافذة صغيرة ذات عقد مزدوج، مفصّص، ينتهي بتجويفتين نصف كرويّتين، تكسوهما زخرفة على شكل مَحارةٍ، ويحيط بهما إطار مستطيل الشكل، يرتكز في الجانبين على عمودين مجدولين كألياف الحبل”، بحسب وصف تدمري، مضيفاً أن “العقد المزدوج في هذه النافذة هو صورة عن الهندسة الأندلسية الطراز، التي تتناسق وتتناغم مع زخرفة عقد البوابة”.

قرب الباب الغربي للمدرسة، تقوم رُدْهة هي حجرة ضريح بانيها، والباب الغربي مطلٌّ على البلاط السماوي. يتوسّط الغرفة قبر من الرخام، ترتفع في أركانه 4 أعمدة من الرخام الأبيض، نقشت على صفحاتها آيات من القرآن الكريم، مشوّهة، ويعتقد تدمري أنه “انتزعت من مكانها، ثم أعيد تثبيتها بطريقة عشوائية، ما يدلّ على جهل العامل الذي قام بهذا العمل، فلم يراعِ تتابع الآيات”.

كما أن كتابتها تدلّ على جهل كاتبها بقواعد اللغة العربية نظراً إلى كثرة الأخطاء الإملائية الظاهرة في الكلمات المحفورة، مثل: “كل ما عليها فن (فان) ويبقا (يبقى) وجه ربك”، أو “إنا فتحانا (فتحنا) لك فتحاً مبينا”.

ومثلها مثل مختلف المواقع الأثرية الوفيرة في طرابلس، والغنية بعمقها التاريخي، وزخارفها، وزركشاتها، وفنّها المعماري، غاب الاهتمام الرسمي عنها، واعتمدت على سواعد أبناء الحيّ، وتبرّعات الأهالي، وبعض المُحسنين، وقام أهل الحيّ بترميمها، وتحسين وضعيّتها من الداخل، والحفاظ عليها منذ سنوات. أما من الخارج فلا يبدو أنها لقيت أيّ اهتمام فعلي، اللّهم إلا بنزع بعض الأعشاب اليابسة التي نبتت في شقوق صفوف حجارتها، وإزالة بعض الطحالب.

ولولا صلابة بنيانها، والاعتماد فيه على الحجارة السوداء الصلبة، والبيضاء الكلسية القاسية، لما حافظت على الكثير من معالمها الخارجية، خصوصا على مشهدّية مدخلها التي تعتبر لوحة فنية متكاملة آية في الفن والجمال.

ولو أتيح للمنشأة الاهتمام الفعلي، بالاعتماد على فن الترميم الأثري، لتحوّلت مدرسة “الطواشية” إلى مَعْلَمٍ من أهمّ المعالم الأثرية النموذجية في لبنان، وربما في الشرق أيضاً.

عن كاتب

شاهد أيضاً

*المنخفض الجوي بطريقه إلينا.. احذروا السيول!*

  يسيطر على لبنان والحوض الشرقي للمتوسط، طقس خريفي مستقر مع درجات حرارة ضمن معدلاتها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *