لم يعد مُستوى التوتّر المُتصاعد في لبنان يُقاس بالأشهر أو بالأسابيع، ولا حتى بالأيّام، حيث أنّ وتيرة هذا التوتّر باتت ترتفع بالساعات وبالدقائق! والساعات المُقبلة حاسمة في هذا السياق، لأكثر من سبب.
أوّلاً: الغلاء المُستفحل بات مُخيفًا، وأسعار البنزين والمازوت والعديد من السلع الغذائيّة والخدمات الحياتيّة الأساسيّة، صارت خارج مُتناول شرائح واسعة من الشعب اللبناني، في ظلّ إهمال غير مسبوق من قبل السُلطات والإدارات الرسميّة المعنيّة التي تركت الشعب اللبناني لمصيره. حتى أنّ رفع سعر ربطة الخبز صار يحصل تلقائيًا، في ظلّ عودة أكوام النفايات إلى الشوارع بدلاً من تنظيف مجاري المياه قبيل موسم الشتاء! وبغضّ النظر عن حجم الإلتزام في تحرّكات يوم الأربعاء الإحتجاجيّة، والتي ستتزامن مع احتمال إرتفاع إضافي في أسعار المُشتقّات النفطيّة، الأجواء باتت مُهيّأة لتفجّر النقمة الشعبيّة في الشارع من جديد، من دون إستبعاد أن تأخذ أشكالاً عنفيّة أكثر هذه المرّة، بسبب تداخل الإحتجاجات المُرتقبة بمواضيع وبخلافات سياسيّة، وبفعل كثرة الأجندات الداخليّة والخارجيّة عشيّة الإستحقاقات الإنتخابيّة المُفترضة.
ثانيًا: الحُكومة التي شُكّلت بعد مُرور 13 شهرًا من التعطيل، تعثّرت من بداية الطريق، بحيث إنفجرت العديد من الملفّات بوجهها دُفعة واحدة، علمًا أنّ هذه الحُكومة بالتحديد لا تتمتّع بترف الوقت! وجاءت الضربة القاضية للحكومة برئاسة نجيب ميقاتي من داخلها، وتحديدًا من “الثنائي الشيعي” الذي أربك موقفه الحاسم بضرورة إزاحة المُحقّق العدلي في قضيّة إنفجار المرفأ القاضي طارق البيطار عن الملفّ، رئيس الحُكومة الذي فضّل تجميد العمل الحُكومي على تفجير الحكومة من داخلها. وغياب السُلطة التنفيذيّة عن مُتابعة الملفّات الضاغطة، بفعل حال الشلل الذي دُفعت إليه، يعني حُكمًا إنزلاق الأوضاع المعيشيّة والحياتيّة نحو المزيد من التأزّم والإنهيار على مُختلف الصعد، بعد أن تبخّرت الصدمة الإيحابيّة التي كانت قد أحدثتها عمليّة تشكيل الحكومة، وإرتفع من جديد سعر الصرف إلى ما فوق العشرين ألف ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد! وكل ساعة تمرّ من دون حُكومة، يعني الإنغماس أكثر فأكثر في قعر الهاوية التي وصلنا إليها.
ثالثًا: التحقيق في إنفجار الرابع من آب سيشهد خلال الساعات المُقبلة تطوّرات حاسمة، لجهة إمكان مُتابعته جديًا، في ضوء جُرعة الدعم المعنوي غير المباشرة التي تلقّاها المُحقّق العدلي طارق البيطار من مجلس القضاء الأعلى، أو لجهة الدوران في حلقة مُفرغة، بفعل إصرار المُتهمين والمَطلوبين بالتخلّف عن الحُضور أمام المُحقّق العدلي، في إنتظار إبتداع طريقة ما لإزاحة القاضي البيطار عن الملف! والأنظار في الساعات المقبلة ستكون مُوجّهة إلى ما سيحصل يوم الجمعة، لجهة حُضور النائبين غازي زعيتر ونهاد المشنوق إلى دائرة القاضي البيطار في قصر العدل من عدمه، وما إذا كان المُحقّق العدلي سيُصدر عندها مُذكّرات جلب بحقّهما على غرار تلك التي صدرت بحقّ النائب علي حسن خليل، مع العلم أنّ تنفيذها بقي حبرًا على ورق، في ظلّ التهديدات التي أطلقت في الإعلام، وحتى على طاولة مجلس الوزراء قبل إنفراط عقده!.
رابعًا: الساعات المُقبلة حاسمة أيضًا بالنسبة إلى التوتّر السياسي الذي بلغ ذروته بين أكثر من حزب سياسي عشيّة الإنتخابات. وليس بسرّ أنّ العلاقة مثلاً بين “حزب الله” وحزب “القوات اللبنانيّة”، أخذت أخيرًا طابعًا طائفيًا خطيرًا، في ظلّ خشية من العودة إلى زمن ظنّ اللبنانيّون أنّه إنتهى، في حال الإصرار على تطبيق مُجتزأ للعدالة، وعلى إتخاذ إجراءات قضائيّة مَبتورة، وعلى القيام بتوقيفات تكيل بمكيالين، علمًا أنّ البطريرك الماروني مار بشارة بُطرس الراعي دخل شخصيًا على خط الأزمة. وبالتالي، الأنظار شاخصة خلال الساعات المُقبلة في إتجاه مصير إستدعاء رئيس حزب “القوات اللبنانيّة” سمير جعجع إلى التحقيق، وتحديدًا ماذا ستكون الخُطوة القضائية التالية، في ظلّ رفض جعجع الحُضور دون باقي الشخصيّات القياديّة. وهذا الملفّ أخذ منحى سياسيًا طائفيًا حادًا، يتجاوز بكثير المنحى الأمني وكذلك المنحى القضائي للقضيّة، بحيث أنّه يحمل في طيّاته نواة تغيير توازنات داخليّة، مُختلّة أصلاً، بفعل فائض القُوّة الذي يتمتّع به “حزب الله”، في مُقابل تشرذم خُصومه وغرقهم في حسابات حزبيّة وشخصيّة ومصلحيّة ضيّقة! وتفسير ما يحصل حاليًا يختلف وفق أكثر من نظريّة، منها أنّه تُوجد مُحاولة لتحضير “العدّة” للمُقايضة بين تحقيقات أحداث الطيّونة وتحقيقات مرفأ بيروت، بحيث تسقط لاحقًا التوقيفات والمُلاحقات عن الجميع. ومن ضُمن النظريّات المُتداولة، نظريّة أخرى تتحدّث عن سعي مُستمرّ لتثبيت موقع لبنان ضُمن “محور المُمانعة”، بعد إضعاف آخر القوى التي لا تزال تقف بوجه هذا المشروع، أي “القوات”، بعد النجاح في تحييد كل من “المُستقبل” و”الإشتراكي” وغيرهما.
خامسًا: الساعات المُقبلة حاسمة أيضًا بالنسبة إلى مصير الإنتخابات النيابيّة المُرتقبة، لجهة ما سيحصل بشأن التعديلات التي كانت مَطروحة، وما سيحصل بالنسبة إلى الموعد النهائي لهذه الإنتخابات، في ضوء نتائج جلسة أمس الثلاثاء التي إمتصّت ردّ رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون لقانون الإنتخاب. حتى أنّ بعض الجهات تتخوّف من أن تؤدّي الإنقسامات والخلافات الحالية الحادة، والتي ستُستكمل عبر طعن دُستوري مُرتقب من جانب “التيّار الوطني الحُرّ”، إلى تطيير الإنتخابات من أساسها، مع ما يعنيه هذا الأمر من إستكمال للإنهيار الشامل الذي يمرّ فيه لبنان، لأنّ كل المُفاوضات القائمة مع صُندوق النقد الدًولي، مربوطة عُضويًا بمسألة إجراء الإنتخابات، وإلا لن تكون هناك أيّ مُساعدات للبنان! والخلافات بشأن القانون الإنتخابي، وكذلك بشأن المُحقّق العدلي، تتجاوز الصراع بين “حركة أمل” و”التيّار الوطني الحُرّ”، وتُهدّد علاقة هذا الأخير مع “حزب الله”، مع ما يعنيه هذا الأمر من توتّر داخلي غير مسبوق.
في الخُلاصة، إنّ الشعب اللبناني في واد والمسؤولين المُفترضين في مكان آخر، والأخطر أنّ المُستقبل القريب قاتم، وأقرب فرصة أمل مُحتملة مؤجّلة ليس إلى ما بعد الإنتخابات النيابيّة فحسب، بل إلى ما بعد الإنتخابات الرئاسيّة المُقبلة، لأنّ الفشل في التوافق عندها على هويّة الرئيس المُقبل، سيُبقي لبنان في مسار الإنهيار التام والشامل. وأولى المُعطيات والمَعلومات في هذا الشأن تدلّ على أنّ الخلاف على هويّة الرئيس المُقبل سيكون كبيرًا وسيأخذ منحى طائفيًا، وقد يمثّل نقطة الماء التي ستفيض كوب علاقة “التيّار” مع “الحزب”.