كتب طلال الأسعد
قبلَ ثلاثون عاماً ، وعند الساعةِ الرابعة والنصف بعد منتصف الليل ، عند بزوغ أوَّل خيوط فجر يوم الثلاثاء بتاريخ 13 من شباط عام 1991م.. دوّى إنفجاران شديدان داخلَ ملجأ حيّ العامرية في بغداد ، ذهبَ على إثرهما أربع مئةٍ وثمانية من النساء والأطفال والطاعنين في السنّ ، شهداء القصفِ المتعمَّد لسلاح الجو الأميركي ، وضحايا الجريمةِ المخطَّط لها …الذي ارتكبها أقوى جيشٍ في العالَم لأكبر دولة تدِّعي الحرية والديموقراطيه ، بحق العُزَّل الذين فرّوا من القصف العدواني ، للجسور والبيوت الآمنة والطرق والسيارات العابرة.. ليأووا إلى ذلك الملجأ الحصين ، ظناً منهم أنّ جيش الدولة التي تتشدّق باحترام حقوق الإنسان ، وحماية الأرواح البريئة ، والإلتزام بقوانين الحرب والسلم.. أنه لن ينتهك حرمة الأطفال والنساء ولن يُزهق ارواحهم ، وسيلتزمُ ويحترمُ معاني الإنسانية وقِيَمها …. ولن يغدرْ ..أربع مئةٍ وثمانية من النساء والأطفال والطاعنين في السّن كلهم استُشهِدوا غدراً ، مئتان وإحدى وستون امرأة ، وإثنان وخمسون طفلاً رضيعاً ، أصغرهم عمره لا يتجاوزُ السبعة أيام ، وخمسة وتسعون من الأطفال والطاعنين في السنّ ، تتراوح أعمارهم ما بين ثلاث سنواتٍ (الطفل أحمد العمر) وثلاثة وتسعون سنة ( العجوز ذوالفقار).. ولم يُعثَر منهم إلا على ثلاث مئةٍ وأربع عشرة جثةً غير واضحة المعالِم ، فيما تحوّل الباقون ( أي94 ) إلى أشلاء ودماء………….
كان ملجأ العامرية قد صُمِّمَ ليحمي الأطفال والنساء من الخوف وأهوال الحروب ، وليحجبَ أصوات الانفجارات خارج المبنى عن الأطفال كي لا يخافوا ، لكنّ وحوش أميركا جعلوا الملجأ ، بتصميمه العازل ، حائلاً أمام سماع استغاثات أولئك الأطفال داخله.. وأمام وصول صراخهم وبكائهم واستنجادهم إلى أصحاب الضمائر الحية لإنقاذهم …
قبل أن يعلو صوتَ المؤذن يخترقُ جُبَّة السماء بكلمة الله أكبر علَّ العالم الحُرّْ يتقي الله ويسمعُ أنَّ بلداً يختلطُ ليله بنهاره من شدة القصف وأضواء القنابل الحارقه … في فجر الثالث عشر من شباط عام 1991م ، كان هذا العالَم الحُرّ المتحضر، (هكذا يسمي نفسه) يغطُّ في نومه قرير العين ، مطمئناً إلى انتصار الوحش على الطفل .. ماطراً بقنابله الحارقه وغازاته السامة الخانقه مأوى الأطفال في ملجأ العامرية .. والأطفالُ والشيوخ والنساء يستغيثون ويستنجدون ويموتون اختناقاً ، ونزفاً..واحتراق .. لتقضي أسرٌ بكل أفرادها ، ولتتمّ إبادة عائلاتٍ بأكملها.. وليمتزجَ الدم العربي ..الدم العراقيّ.. بالدم السوريّ.. بالدم الفلسطينيّ.. فكل هؤلاء ، لجأوا إلى ملجأ العامرية ليحتمون به …..
وهكذا، استشهدت (أم أيمن) السورية مع تسعةٍ من أبنائها وبناتها وأحفادها وحفيداتها.. جنباً إلى جنب، مع أهل (أديبة) الفلسطينية ، ومع أفراد عائلة (أم غيداء) العراقية وغيرهم من العراقيين والعراقيات …………
قصصٌ لا تُنسى ، فكيف ننسى ، كيف نردمُ ذاكرتنا ونقولُ حادثةٌ أدانها العالم وانتهت !!!! انها هولوكوست يرتكبها الوحش الأمريكي بحق أطفالٍ أبرياء لا ذنب لهم سوى أنَّهم عراقيون …كيف ننسى ونردمُ ذاكرتنا أوليس التاريخ ذاكرة الشعوب ؟؟؟
تقولُ السيدة ( أم غيداء ) : ( لقد فقدتُ في ملجأ العامرية كل أبنائي وبناتي التسعة ، كنتُ أظنُّ أن نقلهم إلى الملجأ سيحميهم من القصف الأميركي الوحشي.. ومن وقتها لم أعد أتذكّر اسمي الحقيقيّ ، فقد استُشهِد اسمي معهم.. ويُلقبونني الآن بأم الشهيدة غيداء : طفلتي الكبرى التي لم تكن تتجاوز ( الثالثة عشرة ).. وتتابعُ السيدة أم غيداء : قالوا لي صباح يوم ارتكاب المجزرة : لا تذهبي لتفقّدهم ،
فلن تتعرّفي عليهم .. فقلتُ لهم : بل سأذهب ، فأنا أمّ.. أنا أمّهم ، فإن لم أتمكّن من تمييز ملامحهم.. فسأحسّ بهم حتماً.. إنهم جزء منِّي ومن قلبي وكبدي.. سأحسّ بهم.. سأتعرّف عليهم بالتأكيد ) ……….
وتقول سيدة عراقية ثانية : ( بحثتُ عن طفلتي فلم أجدها ، ومن بعيد ، وقعت عيني على وسادتها..اتجهتُ نحوالوسادة المحترقة فلم أعثر عليها.. تمنّيت لوأعثر على أي شيءٍ يحملُ رائحتها ، كحذائها أودفاترها أوأي قطعةٍ من ملابسها.. لقد اختفت.. لم أجدها.. ولم أعثر حتى على أي قطعةٍ من أشلائها )……..
وتقول سيدة عراقية ثالثة : ( كنتُ أبحث عن طفلي كالمجنونة دون جدوى.. ولم يكن طفلي ضابطاً ، ولا قائدَ دبابة ، ولا عسكرياً مقاتلاً ، كما لم يكن في موقعٍ عسكريٍ على جبهات القتال ، فقد كان في ملجأ العامرية )…..
ويقولُ السيد عبد الكريم عبد الله : ( كنتُ أحد أفراد فرق الإنقاذ.. وفي اليوم الثالث لعمليات الإنقاذ ، كنا نحاولُ رفع الأنقاض ، وتنظيفِ الجدران التي كانت تلتصقُ عليها الأشلاء والدماء والعيون والآذان..في ذلك اليوم عثرنا على جثة امرأة ، وعلى جثة رضيعها الذي احترقَ وهوعلى صدرها يرضعُ من ثدييها )……….
لو لم يسكتُ العرب والمسلمون على تلك المجزرة التي أُقتُرِفَت قبل أربع وعشرون عاماً.. لم تكن أميركا لتتجرّأ اليوم على تحويلِ العراق كُله إلى ما يشبه ملجأ العامرية ، ولم يكن عملاءُ أميركا وأذنابها وميليشياتها الإجرامية.. ليتجرّأوا على استباحةِ بغدادَ والعراق ، بكل هذه
الهمجية والوحشية التي نشهدها هذه الأيام …..
بقي أن نعلمَ ، بأنّ ملجأ العامرية كان مصمَّماً بحيثُ يقاومُ الأسلحة غير التقليدية ، ويقاومُ الأسلحة الكيميائية والجرثومية والإشعاعات الذرية.. وأنّ جدرانه الكونكريتية المسلَّحة بالحديد كانت بسماكة مترٍ ونصف المتر.. وأنّ بابه الرئيسيّ كان يزنُ أكثر من خمسة آلاف كيلوغرامٍ من الحديد.. فهنيئاً للوحش الأميركي ، الذي استطاع أن يحققَ إنجازاً عسكرياً فريداً، بالتغلّب على كل هذه العقبات..
ليقتل مئات الأطفال الآمنين والنساء الآمنات ، في حيٍ آمنٍ من الأحياء السكنية لبغداد ، باستخدام طائرة (الشبح) التي لا تكشفها الرادارات ، ولا الحواسّ الخمس لنساء العراق وأطفاله ….
شاهد أيضاً
رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لوكالة رويترز:
على حز/ب الله التخلي عن سلاحه لإنهاء الحر/ب أعارض قيام الجيش اللبناني بنزع سلاح …