بقلم طلال الأسعد
يُصادف اليوم، 10 كانون الأول، ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يُعد من أهم الوثائق التاريخية والذي حرره 9 أشخاص من مشارب مختلفة وتم اعتماده من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بوصفه “المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات”، وحدد للمرة الأولى حقوق الإنسان الأساسية التي يتعين حمايتها عالمياً.
وكانت لجنة صياغة الإعلان حينها مؤلفة من 9 أشخاص من حول العالم، تتقدمهم آنا إليانور روزفلت، السيدة الأولى السابقة للولايات المتحدة (الفترة من 1933 إلى 1945)، والمعروفة بالتزامها لصالح المحرومين، بالإضافة إلى رينيه كاسين وألكسندر بوغومولوف وتشارلز ديوكس وغيرهم، وكان من بينهم العربي الوحيد، الدبلوماسي والسياسي والأكاديمي اللبناني الدكتور شارل حبيب مالك.
فمن هو شارل مالك الذي يُقال إنه كان من أبرز المؤثرين في اللجنة التي تولّت وضع هذا الإعلان الذي لا يزال يُحتكم إليه إلى يومنا هذا كمرجع ومستند قانوني يشكل أساس القانون الدولي لحقوق الإنسان؟
من هو؟
شارل حبيب مالك هو رجل سياسي ودبلوماسي ومفكر لبناني، شغل منصب وزير الخارجية ومنصب وزير التربية والفنون الجميلة؛ بين عامي 1956 و1957، في حكومة سامي الصلح، في عهد الرئيس كميل شمعون، وساهم في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية في تأسيس الجبهة اللبنانية، وكان من أبرز منظريها مع الدكتور فؤاد إفرام البستاني، وقد كان الوحيد بين أقطابها الذي لا ينتمي إلى الطائفة المارونية، ولعلّ هذه المرحلة من حياته هي التي أثارت الجدل حول شخصيته.
ولد شارل مالك عام 1906 في عائلة أرثوذوكسية، في بلدة بطرّام الكورة ، في شمال لبنان، وهي قرية نائية؛ بدأ دراسته في مدرسة التبشير الأميركية في طرابلس، ثم أكملها في الجامعة الأميركية في بيروت، فأتقن اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية، كما اهتم بالرياضيات والفيزياء والفلسفة، وخاصة بفلسفة العلوم.
لم يكن مالك منذ بداية ظهره شخصية عادية، فهو كان طالباً مُتميزاً أثار إعجاب معلميه في جامعة هارفرد التي انتقل إليها عام 1932، فقرروا إعطاءه منحة سفر فذهب إلى جامعة “فرايبورغ” لدراسة الفلسفة على يد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، وتقول الروايات إنه ما لبث أن هرب من النازية التي وصلت إلى حكم ألمانيا عام 1933 وهناك روايات تذكر أنه تعرض لاعتداء على يد النازيين بعد أن اعتقدوا أنه يهودياً.
عاد مالك بعد هذه التجربة السريعة إلى جامعة هارفارد، وكان متأثراً بالتجربة التي أمضاها في ألمانيا وتحديداً مما رآه في العهد النازي، وبعد الانتهاء من الدكتوراه في “ميتافيزيقيات الزمن وفلسفات وايتهيد وهايدغر”، عاد إلى بيروت للتدريس في الجامعة التي تخرج منها، الجامعة الأميركية في بيروت.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واستقلال لبنان، عُيّن سفيراً للبنان لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، وبعد تقديم أوراق اعتماده، في 19 نيسان 1945، أُرسِل على الفور إلى مؤتمر سان فرانسيسكو؛ حيث جرى التفاوض والموافقة على العقد التأسيسي للأمم المتحدة، وفاز لبنان بواحد من ثمانية عشر مقعداً في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وقد تم تقدير عمله وتثمينه، وفي وقت لاحق؛ عُيّن مالك رئيساً للمجلس الاقتصادي والاجتماعي.
دوره وآراؤه
يُروى أنه بعد أن تم تعيينه في لجنة صياغة الإعلان، كان له الكثير من المحطات والمواقف التي أثرت على مجرى المفاوضات الحاصلة بين أعضاء اللجنة، إذ على سبيل المثال، انتقد الصيني بنغ تشون زملاءه، الأوروبيين والأمريكيين، لتركيزهم على ثقافاتهم الغربية الخاصة بهم، والمجمدة في مبادئ القرن التاسع عشر، وتبنيهم الخطاب الأبوي المتسلط، وقال إنّ “الإعلان العالمي يجب أن يتضمّن أيضاً أفكاراً من كونفوشيوس وسانت توماس الأكويني، وهي الأفكار التي يستند عليها شارل مالك”، وأثار هذا النقاش الفكري تبادلاً بين الرجلين في عشاء نظمته إليانور روزفلت. وكانت هذه الأخيرة تلحّ على أن يحرص الأعضاء الثمانية عشر في لجنة الصياغة التابعة للإعلان، على التعارف فيما بينهم بشكل أفضل، وأن يأخذوا في الاعتبار اختلافاتهم الثقافية.
كذلك، وفي خضم النقاش حول مبادئ الإعلان والتنازع بين أولوية المجتمع أو الإنسان كان لمالك رأيه المؤيد لروزفلت وكاسين مقابل بوغومولوف وغيره، فهو كان يؤمن أن “الفكر والوعي هما أكثر عناصر الإنسان قدسية، والأكثر تعرّضاً للانتهاك، فالمجموعة يمكن أن تخطئ بقدر ما يخطئ الإنسان، وفي أيّة حال، فإنّ الإنسان هو الوحيد القادر على الحكم”.
وقد قالت روزفلت: “إنّ إعلان شارل مالك ذو أهمية قصوى، لا يتعلق الأمر باستبعاد الفرد من المجتمع؛ بل الاعتراف بأن لكل إنسان في كل مجتمع، حقوق فردية يجب أن تكون محميّة”.
وخلال المناقشات أيضاً، وبفضل الدعم الكبير من شارل مالك في ما خص كيفية النظر إلى حقوق المرأة بالمجتمع، نجحت هانسا مهتا في تغيير النص من “يولد كل الرجال” إلى “يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين…”، المادة (1): “يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، لقد وُهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يتصرّفوا تجاه بعضهم بعضاً بروح الإخاء، وتنصّ المادة (2) على الحقوق “دون تمييز من أيّ نوع، بما في ذلك العرق أو اللون أو الجنس أو الدين أو الرأي السياسي، وما إلى ذلك”، وكانت مهتا اعتبرت وأيدها مالك أنّ الإشارة إلى كلمة “رجل” سوف تُستخدم في العديد من البلدان لاستبعاد النساء من الحقوق التي ستدرج في نصّ الإعلان.
وهانسا مهتا، الشخصية البارزة في تاريخ استقلال الهند، كانت أيضا من ضمن مجموعة من النساء شاركن في اللجان الفرعية خلال صياغة البيان
الإنجاز
وبعد 83 اجتماعاً، امتد بعضها لعدة أيام، أو حتى أسابيع، وبعد 170 تعديلاً، اعتُمد في 10 ديسمبر 1948 الإعلان العالمي، من دون تصويت مضاد، وهو ما مثل إنجازاً دبلوماسياً، فيما امتنع ثمانية أعضاء عن التصويت وهم: بيلاروسيا وتشيكوسلوفاكيا، وبولندا والمملكة العربية السعودية، وجنوب إفريقيا، والاتحاد السوفييتي، وأوكرانيا، ويوغوسلافيا، خصصت الجمعية العامة للأمم المتحدة حفاوة بالغة لإليانور روزفلت.
وعنها، قال شارل مالك: “لا أرى، كيف كان يمكننا، من دون وجودها، أن ننجز كل ما أنجزناه”، وكانت روزفلت تحمل تقديراً كبيراً لمالك، فاقترحت أن يُصبح عام 1951، خلفها في رئاسة لجنة حقوق الإنسان، وهو المنصب الذي تولاه حتى عام 1953، وفي أثناء توليه هذه المهام استأنف مهامه كسفير للبنان في الولايات المتحدة من 1953 إلى 1955.
عُرف عن مالك أنه كان سهل الطباع، سلس اللغة، ويقول عنه الكاتب ناصيف نصار في خلال قراءة نقديه له إنه كان “موالياً للدول الغربية بصورة عامة وللولايات المتحدة بصورة خاصة، لأنّ همّه الرئيسي كان مجابهة الاتحاد السوفياتي والقوى المتحالفة معه، سواءٌ على الصعيد المحلّي أم الاقليمي أم العالمي. ومن هُنا أيضاً يظهر واضحاً كيف بنى العلاقة مع روزفلت، ولكنه أيضاً وفي محطات أخرى انتقد الغرب لانحرافه “عن قيمه الحضارية وعن الروح الانجيلية الصحيحة، خصوصاً من جهة سوء التصرف بالحرية وتحويلها فوضى نفسية واجتماعية وعالمية”.
وكتب حسن صعب وهو كان أحد المقربين منه، “كان لمالك دور توّج به هذين الدورين الدبلوماسيَّين التقليديَّين، وارتقى به من تمثيل دولة صغيرة إلى تمثيل دولة كبرى، وهو دور المفكر العالميّ المستوى. وتوحي إليّ تجربتي مع مالك بأنّ هذا الدور كان مفضَّلاً عنده، وبأنه لم يبغِ، في واشنطن ونيويورك، سفارتين، بل منبرين لرسالته الفكرية التي كان يعتبرها رسالة لبنان إلى العالم، بل معنى وجود لبنان بين دول العالم”.
المفارقة اليوم
واللافت اليوم، أن لبنان الذي خرج منه مالك الذي يُعتبر أكبر المساهمين في وضع شرعة لا تزال يحتكم إليها العالم في ما خص حقوق الإنسان، يُعتبر من أكثر بلدان العالم انتهاكاً لهذه الحقوق خاصة في الآونة الأخيرة وعلى صعد كافة.
وخرجت في السنوات الماضية أصوات كثيرة منددة بتعامل السلطات اللبنانية في هذا السياق وانتهاكها لشرعة حقوق الإنسان في أكثر من مجال، إذ على سبيل المثال يحصل في لبنان بشكل شبه يومي محاولات قمع لأصحاب الرأي والصحافيين والكتاب والفنانين، ويتم استدعاءهم إلى المحاكم بطريقة غير قانونية كما حصل مع كُثر منهم لا سيما بعد احتجاجات 17 أكتوبر، والتي أيضاً شهدت قيام الأمن بحملة اعتقالات واعتداءات على ناشطين سلميين كذلك إطلاق رصاص مطاطي أدى إلى إصابة العديد من المحتجين إصابات خطرة منهم من خسر عينه ومنهم من تعرض لعطب مزمن.
وإذا كان شارل مالك قد حارب من أجل حصول النساء على حقوقهن، فإن لبنان اليوم لا يزال يعاني من النظام الأبوي الذي رفضه مالك في الأمم المتحدة، حيث تتعرض النساء للعنف بشكل متزايد وترتفع معدلات الوفيات نتيجة هذا الأمر، فيما لا يحق للبنانيات المتزوجات من غير لبناني أن يعطوا أبنائهن الجنسية اللبنانية ويمنع رجال الدين بالتواطؤ مع أحزاب في السلطة من إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية، في الوقت الذي يرد فيه رئيس البلاد قانوناً أقره مجلس النواب لإعفاء أبناء اللبنانيات المتزوجات من الأجانب من الحصول على إجازات عمل لكي يتمكنوا من العمل في لبنان.
وتقوم السلطات اللبنانية بمنع عرض أفلام تحت حجج متعددة وتمارس رقابة مسبقة صارمة على مخرجيها وعلى المسرحيين، وكانت قد ألغيت تحت ضغط رجال الدين حفلة لفرقة موسيقية عقب اتهام الكنيسة المارونية لأفرادها بـ”المساس بالقيم الدينية المسيحية”.