خلال 48 ساعة، وصلت أربعة قوارب إلى سواحل قبرص من لبنان، وعلى متنها للمرة الأولى منذ أزمة اللجوء عام 2015، غالبية من المواطنين اللبنانيين الساعين للفرار من ضيق الحال في وطنهم. وهذا الرقم مرشح الى تزايد خلال الفترة المقبلة، في موازاة ارتفاع الهجرة “الشرعية” عبر المطار. عشرات آلاف اللبنانيين المزدوجي الجنسية والحاصلين على تأشيرات عمل وهجرة ممن غادروا منذ بداية الاقتصادية (66 ألفاً غادروا بلا عودة بين نهاية عام 2018 ونهاية العام الماضي، بحسب أرقام الأمن العام). وبحسب أرقام غير رسمية، هناك أكثر من 30 ألف لبناني كندي غادر البلاد منذ نهاية العام الماضي، يُضاف اليهم عشرات آلاف من مزدوجي الجنسية من بلدان أخرى.
رحيل مزدوجي الجنسية في الأزمات، حتمي وأكثر سهولة. لكن للمهاجرين الفقراء ممن ضاق بهم الحال في لبنان، يبدو البحر سبيلاً وحيداً للرحيل، ووجهتهم عبره هي قبرص. وهذه طريق سلكها آلاف اللاجئين السوريين والفلسطينيين خلال السنوات الماضية، وكان بينهم لبناني أو اثنان من المهربين على كل قارب. لكن اليوم، بات أغلب سالكي هذا الطريق البحري الذي عُرف بإسم “قوارب الموت” نتيجة مخاطره، من اللبنانيين. هناك شراكة اليوم لبنانية-سورية في رحلة الفرار من البلاد، والتي ستزداد خطراً خلال الشهور المقبلة.
وفقاً لصحيفة “سايبرس مايل” القبرصية (باللغة الإنكليزية)، وصل يوم الثلثاء الماضي 21 مهاجراً هم تسعة سوريين و12 لبنانياً الى بلدة باراليمني على الساحل الشرقي لقبرص. بحسب الرواية القبرصية، حاولت السلطات اليونانية اقناع الركاب بالعودة، وعدم اللجوء، لكن مساعيهم خابت نتيجة إصرار طالبي اللجوء اللبنانيين والسوريين.
وهذا القارب لافت في تنوع ركابه، لجهة أعمارهم وجنسياتهم، ويُمثل نموذجاً لموجة الهجرة الجديدة. أولاً، الغالبية من اللبنانيين (12 من أصل 21)، وثانياً، في القارب أربع نساء وخمسة أطفال وقاصران (17 عاماً) بلا مرافق أو أقارب. الغالبية لبنانية، والقاصرون يُهاجرون أيضاً بحثاً عن فرصة عمل لمساعدة عائلاتهم في لبنان.
بحسب المصدر ذاته، وصل قارب ثان وعلى متنه 52 لبنانياً وسورياً (28 رجلاً و8 نساء و16 طفلاً)، إلى لارنكا. كلفت الرحلة إلى قبرص ألف دولار لكل من الركاب، ونُقلوا إلى مركز عزل. الشرطة اعتقلت أربعة رجال من الركاب هم 3 سوريين (أعمارهم هي 31 و25 و21) ولبناني (19 عاماً) بتهمة تهريب البشر. بين المهربين والركاب مزيج من اللبنانيين والسوريين.
والأرقام تميل الى غلبة اللبنانيين في بعض الحالات. بين قوارب الأسبوع الماضي، واحد فيه 33 راكباً هم 30 لبنانياً وثلاثة سوريين (14 طفلاً و6 نساء و13 رجلاً)، أُعيدوا جميعاً إلى لبنان على متن قارب قبرصي، بعد الإتصال مع الجانب اللبناني، وإثر تأمين السلطات القبرصية الرحلة والغذاء والعناية الطبية. ذلك أن القارب كان في حالة يُرثى لها ولا يصلح لرحلة العودة (ولا حتى للرحلة الأولى).
هل هناك ما يُبرر انطلاق الموجة هذا الشهر دون غيره؟ أو بالأحرى، هل هناك رسالة سياسية عبر التراخي في ضبط السواحل؟ بعد تجاوب الطبقة السياسية مع مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، لا مبرر ولا فائدة لمثل هذا الضغط.
التوقيت مفهوم لأن موجة الهجرة تأتي بعد شهر على تفجير بيروت، وعلى أبواب الموسم المدرسي الذي جاء صادماً لجهة ارتفاع أسعار الكتب والقرطاسية، علاوة على الارتفاع في أسعار السلع الغذائية والألبسة. مكتب الإحصاء المركزي كان نشر أرقاماً صادمة عن التضخم (112 بالمئة في تموز الماضي، مقارنة بـ90 في المئة في الشهر السابق)، وهذه النسبة مُرشحة للارتفاع في شهري آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر).كما تتراوح الأرقام غير الرسمية للبطالة بين 40 و60 في المئة.
الوضع الاقتصادي وانسداد أفق أي تغيير سياسي، كفيلان وحدهما بدفع مئات الآلاف الى الرحيل بأي وسيلة. لكن هذه الرحلات المحفوفة بالمخاطر تُنبئ بمأساة غرق محتملة مع اقتراب فصل الخريف، ونتيجة اكتظاظ المراكب ورداءة نوعيتها، كما في حالة القارب الذي رفضت قبرص إعادة اللبنانيين على متنه. هذه واحدة من حزمة كوارث وأزمات مقبلة لا يتحمل مسؤوليتها سوى أولئك القابعين في سدة السلطة.